علم النفس الجنائي

 

يودع في السجون كل عام في جميع أنحاء العالم عدة ملايين من البشر، وذلك نتيجة للأفعال التي يرتكبونها، وتعتبرها المجتمعات التي يعيشون فيها أفعالاً إجرامية، وفي مقابل هؤلاء المنتهكين للقانون يوجد ملايين الضحايا الذين يقع عليهم ضرر بسبب هذه الأفعال الإجرامية.

 

وتكاد تكون الجريمة هي الشغل الشاغل لجميع المجتمعات، وربما تنشغل بها بصورة ملحة أكثر المجتمعات تقدماً وحضارة، فالولايات المتحدة الأمريكية والتي هي من أرقى البلاد تقدماً وحضارةً نجد فيها أن معدلات الجريمة مرتفع يصل إلى جريمة كل أقل من دقيقة، ناهيك عن أن كلفة مقاومة الجريمة في تلك البلاد باهظة لدرجة تتجاوز فيما يذكر ستين ملياراً من الدولارات سنوياً.

 

وعلم النفس هو العلم الذي يدرس سلوك الإنسان وذلك بقصد أن يصل إلى معرفة دقيقة بهذا السلوك، وهذه المعرفة تدور على ثلاثة محاور: المحور الأول وصف سلوك الإنسان وصفاً دقيقاً سواء كان هذا السلوك سوياً أو غير سوي. والمحور الثانى هو تفسير هذا السلوك لمعرفة أسبابه ودوافعه. أما المحور الثالث: فهو محاولة التنبؤ بهذا السلوك بمعنى توقع ماذا سيكون عليه سلوك شخص ما إذا وضع فى ظروف معينة، ومن ثم التحكم في هذا السلوك وضبطه وتعديله.

 

ولما كان علم النفس يدرس سلوك الإنسان، فهو يشترك مع القانون الذي هو تقعيد السلوك الإنساني؛ بمعنى أن القانون هو مجموعة من القواعد والأنظمة التي تضعها الدولة ويلتزم الأفراد بطاعتها والإذعان لها.

 

إن القانون هو المبادئ المقررة من قبل السلطات العليا أو ولاة الأمر لأن القانون نسق من القواعد تحدد سلوك الإنسان، وتقول إن هذا الفعل مطابق للقانون، وإن ذلك الفعل غير مطابق، فتبيح الأول وتجرم الثاني وهذا ما نقصده بأن القانون تقعيد لسلوك الإنسان.

 

إن المنطقة التى يتقابل فيها علم النفس مع القانون هي التي تمثل ساحة علم النفس الجنائي وميدانه؛ بحيث نقول إن علم النفس الجنائي هو فرع من فروع علم النفس التطبيقي؛ يهتم بدراسة السلوك الإنساني فى إطار تعامل هذا السلوك مع القانون.

 

بمعنى أن علم النفس الجنائي هو فرع من علم النفس يهتم بتطبيق المعارف النفسية فى المجال الجنائي أو الإجرامي كأنه تطبيق للمبادئ العلمية النفسية في المواقف التى يتعامل فيها الإنسان مع القانون. ومن ثم يتحدد تعريف علم النفس الجنائي وموضوع دراسته.

 

وعلم النفس الجنائي مثله كمثل العديد من فروع علم النفس، اختلف العلماء في تعريفه تعريفاً دقيقاً يجذب اهتمام الغالبية العظمى التي تهتم بهذا التخصص.

 

ولكن مراجع التراث البحثي بينت أن الكتابات المتخصصة في علم النفس الجنائى تتبنى أحد منحيين بارزين للتعريف، أحدهما متسع، والآخر محدود النطاق.

 

فبعض الأدبيات تشير إلى علم النفس الجنائي على نطاق واسع على أنه البحث والتطبيق للمعرفة النفسية على النظام القانوني، بيد أن البعض يشير إلى منحى آخر أكثر محدودية يُقصِر علم النفس الجنائي على أنه الممارسة الإكلينيكية في إطار النظام القانوني.

 

ومن التعريفات التي قُدمت لعلم النفس الجنائي طبقا للمنحى متسع النطاق التعريف الذي قدمه بارتول أن علم النفس الجنائي هو الجهود البحثية لدراسة جوانب السلوك الإنسانى التى تتصل مباشرة بالإجراءات القانونية والممارسة الإكلينيكية لعلم النفس في نطاق النظام القانوني الذى يشمل القانون المدني والجنائي على حد سواء.

 

هذا بينما يشير رونالد روش الى أن معظم علماء النفس في هذا المجال يعرفون علم النفس الجنائي بشكل محدود النطاق للإشارة إلى الممارسة الإكلينيكية التي يقوم بها علماء النفس في نطاق النظام القانوني، وهذا التعريف قد يكون ضيقاً للغاية، إذ يبدو أنه يتضمن فقط ما يسمى "بعلم النفس الاكلينيكي الجنائي". وعلاوة على ذلك فإنه يستبعد - بين أمور أخرى - الأخصائيين النفسيين الإكلينيكيين الذين يقدمون خدمات الإرشاد للسجناء، ويقومون بأداء مهام أخرى متعلقة بالإصلاح.

 

ويشمل التعريف الواسع؛ من ناحية أخرى ليس فقط الأطباء (ويطلق عليهم أيضا الممارسين) ولكن أيضا علماء النفس الاجتماعيين والإرشاديين والمعرفيين والتجريبيين والتنظيميين الصناعيين والأخصائيين النفسيين في المدرسة؛ فبعضهم ولكن ليس جميعهم من الأخصائيين النفسيين الإكلينيكيين، والرابط المشترك بينهم جميعا هو مساهمتهم في النظام القانوني، ومع ذلك ندرك أنه يمكنهم تأدية جزء صغير من عملهم في هذا السياق.

 

ونخلص مما سبق إلى أنه ما زال هناك خلاف بين الباحثين حول تبنى أحد المنحيين السابقين فى تعريف علم النفس الجنائى (واسع النطاق، ومحدود النطاق). ولكننا في المجمل نفضل استخدام المفهوم واسع النطاق لعلم النفس الجنائي على النحو الذي قدمه "باترول" وهو" أن علم النفس الجنائي أحد الفروع التطبيقية لعلم النفس، والذي يهتم بتطبيق المعارف والمعلومات النفسية في المجال الجنائي؛ بما في ذلك البحث والتقييم والتدخل".

 

وهذا يعني التركيز بشكل أساسي على الممارسة فى المجال الجنائي، وما يقوم به ويفعله علماء النفس في هذا المجال فعليا. بمعنى أننا نؤكد على التطبيق المهني للمعرفة النفسية، والمفاهيم، والمبادئ في مجال العدالة المدنية ونظم العدالة الجنائية. ومما ينبغي الإحاطة به أن هذا التطبيق المهني يجب أن يستند على البحوث الرصينة الواقعية.

 

وحتى نستوضح هذا التعريف نعطى أمثلة لتطبيق المعارف النفسية في

المجال الجنائى، وهو ما يبرز موضوع الدراسة فى علم النفس الجنائى؛ وذلك على النحو التالى:

 

-        لماذا الجريمة؟ هل السلوك الإجرامي بسبب وراثة معيبة أو عوامل اجتماعية غير حميدة أو اضطرابات نفسية تدفع المجرم إلى سلوك غير سوي؟ أم أن الجريمة تحدث نتيجة تضافر العديد من هذه العوامل؟ ذلك أن تفسير أسباب السلوك الإجرامي شغل شاغل للمختصين فى علم النفس الجنائي.

 

-        ماذا عن الاحتياطي الاستراتيجي للجريمة؟ ونقصد به صغار المجرمين أو الأحداث؛ هؤلاء الأحداث كيف ينحرفون؟ وما العوامل التى تساعد على هذا الانحراف؟ وهل يمكن الوقاية من هذا الانحراف وهل من وسيلة لعلاجهم وإعادتهم إلى طريق الصواب؟

 

-        هل ترتبط الاضطرابات النفسية والعقلية بالسلوك الإجرامي؟ بمعنى آخر: هل هناك أمراض نفسية أو عقلية يندفع بسببها المريض إلى ارتكاب الجريمة؟ وما أنواع الجرائم التى يرتكبها مرضى النفوس أو مرضى العقول؟

 

-        إذا كان بعض المصابين بالأمراض العقلية قد يرتكبون الجرائم، فما مدى مسئوليتهم عن أفعالهم الإجرامية؟ كيف يتم اتخاذ قرار بإعفائهم من المسئولية الجنائية؟ وما مدى خطورة هذا القرار؟ ثم من يتخذ هذا القرار؟ كيف نستفيد من المعارف العلمية النفسية في معرفة العوامل التى تؤثر على شهادة شهود العيان أمام القضاء والشرطة؟ وهل هذه الشهادة دقيقة؟ وما العوامل التى تؤدى إلى تحريفها؟ ولماذا ينسى الشاهد بعض التفاصيل عند رواية شهادته؟ وهل يجوز الأخذ بشهادة الأطفال؟ وكيف ذلك؟ وكذلك الأمر فى شهادة كبار السن، هل عليها ملاحظات؟

 

-        هل هناك وسائل علمية حديثة تساعد المحقق الجنائى؟ إن الوصول إلى الحقيقة هو شغله الشاغل، فهل من معين من أسباب العلم الحديث؟ يقال إن جهاز كاشف الكذب يستطيع أن يدل المحقق على أن الشاهد كاذب أو صادق، ناهيك عن أن التنويم المغناطيسي يستطيع أن ينشط ذاكرة الشاهد، وهل هناك خلافات حول كفاءة مثل هذه الوسائل الحديثة؟

 

-        هل يمكن مكافحة الجريمة؟ هل يمكن الوقاية منها وعلاج المجرمين وتأهيلهم؟ للإجابة عن هذا السؤال يصنف المجرمون إلى نوعين : الأول يضم المجرمين (المسئولين عن أفعالهم الإجرامية)، وهؤلاء يوجدون فى المؤسسات العقابية أو مؤسسات الأحداث. ويشمل النوع الثانى المجرمون الذين يعانون من اضطرابات عقلية مختلفة. والواقع أن جميع الأفراد الذين يصنفون فى النوعين السابقين يحتاجون إلى برامج وقائية وعلاجية وتأهيلية. ومن ثم هل يتيح ذلك عودة المجرم شخصا سويا مرة أخرى إلى المجتمع؟

 

وعلى الرغم من أن علم النفس الجنائى قد وصل إلى درجة متميزة من

المنهجية العلمية والدلالات التطبيقية فى الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه ما زال يحبو فى مصر والخليج والعالم العربى. ولم يصل اهتمام الباحثين وعلماء النفس به إلى الدرجة المأمولة التى يمكن من خلالها توظيف المعارف النفسية لخدمة المجتمع وحل مشكلاته فى مجال القانون والعدالة الجنائية.

 

فقد تطور هذا التخصص التطبيقي من تخصصات علم النفس تطورًا مذهلاً خلال الحقبتين الأخيرتين من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين وحتى الآن، وتشبعت الاهتمامات الفرعية لعلم النفس الجنائي لتشمل توظيف المعارف النفسية في مجالات الشرطة والقضاء والنيابة والمؤسسات العقابية وغيرها، وأصبح هذا التخصص ركنا أساسياً في نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الغربية الأخرى.

 

لذلك نأمل أن يشمل فى هذا الكتاب الملامح الحديثة والمعاصرة للاهتمام فى علم النفس الجنائى؛ بما يبرز دلالة هذا التخصص وأهميته؛ والتى تقل الآن عن التخصصات التطبيقية الأخرى مثل علم النفس الإكلينيكي؛ وعلم النفس الصناعي والتنظيمي وعلم النفس التربوي وغيرها ومدى الحاجة الملحة للاستفادة من معارفه ومعلوماته؛ وبخاصة فى تلك المرحلة المهمة من تاريخ أوطاننا العربية الغالية، والتى ننشد فيها أن يعود الانضباط للشوارع العربية ولمنظمات الأعمال وللجامعات والمدارس وغيرها وأن تتقلص معدلات الجريمة والانحراف إلى أدنى درجة ممكنة بما يعزز جهود التنمية والارتقاء بالمجتمع على كافة الأصعدة.

 

وعلى ذلك سوف يشمل الكتاب الحالى مجموعة من الفصول التى تتناول موضوعات الاهتمام الحديثة فى مجال علم النفس الجنائى وأهمها النظريات المفسرة للسلوك الإجرامى بمختلف توجهاتها البيولوجية والاجتماعية والنفسية والنفسية الاجتماعية، وجنوح الأحداث وأساليب التحقيق والاستجواب الجنائى، والشهادة القضائية.

 

عندما تدرس علم النفس الجنائي سوف تدرك أهمية هذا التخصص في التعرف على السلوك الإجرامي والعوامل المؤدية إليه وما هي مناهج البحث المناسبة لدراسة كافة الظواهر الإجرامية.

 

قائمة المراجع

 

1- محمد عارف (1990). الجريمة في المجتمع: نقد منهجي لتفسير السلوك الإجرامي، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.

 

2- مصطفى سويف (1996). المخدرات والمجتمع نظرة تكاملية، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 205.

 

3- معتز سيد عبدالله (2022). علم النفس الجنائي. القاهرة: كلية الآداب، جامعة القاهرة (التعليم المدمج).

 

4- عبداللطيف محمد خليفة (2000). علم النفس الاجتماعي. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.

 

5- نبيل السمالوطي (1983). الدراسة العلمية للسلوك الإجرامي، جدة: دار الشروق.